بحث هذه المدونة الإلكترونية

4/10/2020

وسط الصحراء قصة قصيرة


وسط الصحراء

أُختير مع خمسة عشر مهندسا في عام 1988 للذهاب إلى خارج الوطن للاشراف على تنفيذ مشروع مد أنابيب لنقل النفط من البصرة إلى ميناء ينبع في السعودية على البحر الأحمر  لتمكين العراق من بيع بتروله بعد ان انقطعت السبل في تصدير النفط  من موانئ العراق المطلة على الخليج العربي بسبب الحرب مع إيران التي كانت تهدد بضرب ناقلات النفط الأجنبية التي تحمل النفط العراقي.    
كان مهندسا مشرفا عن تنفيذ أعمال مد الكابلات الضوئية من البصرة إلى الميناء..كان الهدف من هذه الكابلات هي لتأمين الاتصالات ونقل إشارات سيطرة على عمليات ضخ النفط في الأنبوب.
ان المسافة الكبيرة بين البدايات والنهايات وبين المحطات في وسط الصحراء الشاسعة فرضت وضعا خاصا على الشركات الأجنبية التي كانت تنفذ المشروع، وبطبيعة الحال ينسحب ذلك على المشرفين من العراقيين وممثلي استشاري المشروع وهي شركة امريكية عملت جنبا إلى جنب مع العراقيين  لمرافقة شركات تنفيذ المشروع.
لقد اختارت الشركة التي كان يشرف عليها مكانا قريبا من طريق عام يربط المدينة المنورة وجدة وهو الطريق الذي يؤدي إلى مكة المكرمة أيضا وهو عبارة عن طريق واحد في معظم مناطقه ويمر في وديان مرتفعة وتنتشر الجبال على طول المسافة باتجاه المدينة المنورة..كان المكان جيدا بالقياس لمناطق أخرى في الصحراء وبعيدة عن مراكز المدن.
كانت الشركة السويدية التي كان معها  قد اختارت مكان سكنها وانطلاق أعمالها ليس اعتباطا، كان ذلك بسبب تكليفها بأعمال مد الكيبل الضوئي في منطقة جبلية وصخرية شديدة الوعورة، تحتاج لوسائل تفجير بالديناميت لكي تشق الأرض.. احتاج مد الكابلات لمسافة سبعة وعشرون كيلومترا لستة أشهر لإنجازه بسبب طبيعة الأرض الصخرية.
اختار له أحد الكرفانات في مخيم الشركة ليبيت فيه بعد عناء يوم عمل طويل وهو عبارة عن غرفة تحتوي على سرير نوم وخزانة للملابس مع حمام جانبي..
كانت سيارة اللاندكروزر ذات الدفع الرباعي كفيلة تنقلاته وسط الارض الوعرة وصعود التلال والجبال والنزول منها، لكن كانت القيادة تتطلب الحيطة والحذر بشكل أكبر بسبب ذلك وبسبب وجود الجمال والرعي في هذه المناطق التي تنمو فيها بعض الأحراش الصحراوية.
خرج في أحد صباحات ايلول، وعادة ما تكون الأجواء في هذا الوقت من  السنة حارة ورطبة، لرؤية الأعمال الروتينية، لكن هذه المرة في منطقة شديدة الخطورة على قمة جبل يرتفع سبعة آلاف متر فوق سطح البحر ومنه يمكن روئية مدينة "بدر"، المدينة التي جرت فيها معركة بدر بين المسلمين وكفار قريش والتي تبعد عن المخيم السكني عشرين كيلومترا وهي تقع على الطريق العام بين المدينة وجدة ...كان يحاول دائما ان يتجنب صعود القمة والنزول منها لخطورتها وخاصة بعد أن سمع بأن العديد من السائقين الفلبينين لشركات أخرى قد لقوا حتفهم في هذا الطريق، فكان يقود سيارته والالتفاف حول الجبل بمسافة اكبر للوصول إلى مكان عمل ما ، لكن عند وصول الأعمال على قمة الجبل، كان لا بد من الوصول إليها.
تسلق الجبل الذي كان ميل الصعود فيه حادا كما هو في النزول من الجانب الآخر ايضا للوصول إلى قمته...أطلق سيارته مندفعة بقوة محركها وتروسها و عجلاتها الكبيرة لمقاومة الأرض الصخرية وأجزاء الصخور المبعثرة على الطريق.
لم تكن الدقائق المعدودة في تسلق الجبل للوصول إلى القمة مجرد زمنا اعتياديا، فقد كان يمثل بالنسبة له ساعات من القيادة المضنية على أرض صخرية مزقها بارود الديناميت.
كادت عجلات السيارة تخرج عن السيطرة والانزلاق إلى الوراء لولا قوة محركها و تعشيق التروس الرباعية مكنته في الوصول إلى قمة الجبل و ينتظر وقتا عصيبا آخر في النزول منه.
وقف على قمة الجبل وراى مدنا بعيده كأنها عانقت سحب بيضاء في افق اخترقته أشعة الشمس الذهبية.. أحساس رائع بجمال وروعة صنع الخالق في هذه المنطقة من العالم.. لكن    ظل أزيز مكائن آلات حفر عملاقة التي تضرب الصخر وتحوله لساقية ملتوية مليئة بالحجارة المكسورة  يطغى على المكان ويشوهه...


 10/4/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق