طريقي إلى الوظيفة
كان الأمل يحدو الطلبة في الحصول على وظائف ما بعد
التخرج في شركات ومؤسسات مرموقة، لكن قانون الخدمة العسكرية الذي ظل طويلا يلاحق
الطلبة الخريجيين ويزجهم في دورات عسكرية تستمر في حالات السلم لمدة سنة وتسعة أشهر
وتكون الخدمة اكثر من ذلك في حالات الحرب وبشكل مفتوح حتى يصدرا امرا حكوميا
بالتسريح من الخدمة العسكرية… لكن خريجي الكليات الهندسية لهم بعض الاستثناءات
في بعض الأحيان، فهم عصب التطور في بناء البلاد ولهذا يظل المهندسين ورقة صعبة في
الخدمة العسكرية، فاضطرار الدولة إلى تسريحيهم هو بسبب هذا الخصوص… وقد عملت الدولة
على أستثمار جهود المهندسين وجذبهم إلى مؤسسات ذات طبيعة خاصة، تتميز بأعمال تتطلب
جهودا كبيرة لإنجاز خدماتها، لذا تسارع الدولة في تقديم عروضها إلى المهندسين
حديثي التخرج ومنها العمل في تلك المؤسسات مقابل تجميد الألتحاق بالخدمة العسكرية
لمدة زمنية تعادل تلك التي يقضيها المهندس في الخدمة العسكرية ومقابل مرتبات عالية
وهي في الغالب أعلى من بقية رواتب المهندسين لنفس سنة التخرج في دوائر حكومية أخرى …كان يجري ذلك خلال السنة الأخيرة من الدراسة
في الجامعة.
لقد أغرت هذه العروض بعض المهندسين وانا منهم فبدأ البعض
بتسجيل أسمه لدى فريق المؤسسة على أمل الألتحاق بالعمل فورا وفي الوقت نفسه يستطيع
الأفلات من الخدمة العسكرية التي تتصف بالشدة وصعوبة الأداء.
في الحقيقة كان هناك تنافس بين هذه المؤسسات وبين مؤسسات
أخرى تابعة لوزارات الدولة في أستقطاب المهندسين
ويتم تعيين المهندسين في الوزارات من خلال وزارة التخطيط
تحت مسمى التعيين المركزي، وقد يصادف كما صادف معي ومع صديق لي ان تم توظيفنا في
وزارة النفط حسب التعيين المركزي، وفي الوقت نفسه ترشحنا للعمل في تلك المؤسسات.
بالرغم ان
اختيار المهندس بين الوظيفتين في هذه الحالة محدود، ويظل معتمدا على قرارات يصدرها
الوزير او مسوؤلا كبيرا في الدولة.
بعد المباشرة بأشهر معدودة فوجئنا بتبليغ مكتوب بالحضور
إلى أحدى المؤسسات لأستكمال التعيين فيها وباتفاق مسبق بيني وبين صديقي قررنا ان
نترك العمل في وزارة النفط والالتحاق بتلك المؤسسة لنستدعى بعد ذلك من قبل جهة
امنية للاستفسار عن أسباب ترك العمل … وبعد أبلاغهم بحقيقة الأمر تم أخلاء
سبيلنا والموافقة على انتقالنا إلى المؤسسة… وبالفعل التحقنا بالعمل الجديد
والتقينا باصدقاء سبقونا هناك نعرفهم من الجامعة وباختصاصات مختلفة… كان العمل
بالنسبة لي مريحا نوعا ما وفي صلب الأختصاص اما بالنسبة إلى عبد السلام فكان العمل
بعيدا عن أختصاصه واصبح أمام كم من المعلومات الجديدة، فشعر بالضجر والملل من نوع
العمل وظل يفكر في ترك العمل في أقرب فرصة والعودة من حيث أتى في وزارة النفط.
اجتمعت مع عدد من زملاء
الدراسة في الجامعة، لكن باختصاص آخرومنهم خالد، علاء وآخرين…من قسم البناء والانشاءات في
الجامعة، ومهندسا كهربائيا كان قد تخرج قبلنا اسمه ضياء، جميعنا اجتمعنا في
قسم واحد يختص بتنفيذ مشاريع ابنية الخدمات التي تحتاجها المؤسسة في
أعمالها…وجميع هؤلاء الزملاء الذين أصبحوا فيما بعد أصدقاء، هم من عوائل محترمة
يتصفوا بالخلق الرفيع والأدب والتربية الأصيلة
نشئت علاقات عمل وصداقة
طيبة بين الجميع، ومثلما كنا نتشارك في الطعام اليومي في مطعم المؤسسة، بدأنا نتعاون
في إنجاز الأعمال المكلفين بها دون ان يؤثر علينا طبيعة العمل المرهق والدوام
الطويل في هذه المؤسسة.
كانت فترة الاستراحة
الممنوحة لنا بعد تناول وجبة الغذاء عبارة عن فترة استرخاء للبعض او فترة القيام
بالتسالي وهي عبارة عن حزورات او تسالي فكرية إذ لم تتوفر وسائل أخرى غيرها آنذاك… فكنت ابادر في جمع الأصدقاء واللعب بالتسالي الخفيفة التي يغلب على أكثرها شيء من
الفكاهة.
في نظام العمل في هذه النوع من المؤسسات، ينشط الجميع
قبل الاستراحة عند منتصف النهار ليبدأ بعدها مراجعة المشاكل الهندسية او المعوقات
خلال أجتماعات تعقد لهذا الغرض… كان الاصدقاء الذين يقضون اثناء الاستراحة ساعة
من الاسترخاء وربما قيلولة صغيرة يحضرون الاجتماع وهم لا زالوا في حاجة إلى الراحة
نتيجة الأرهاق الذي يصيبهم بين النهوض مبكرا والمسير الطويل، بين منازلنا وبين
المؤسسة، في باصات مصنوعة محليا، تشتهر بصوت محركها العالي واهتزازاته تجعل من
ركابها في حالة من الاسترخاء الشديد.
في أحيان كثيرة يلجأ مسؤولنا
إلى الطلب من كل واحد منا أستعراض أعماله وكتابتها في تقرير يومي، لكن قبل ذلك
يلقي المسؤول على المهندسين تعليمات ادارية وانضباطية احيانا وحث الجميع على أسرار
العمل ايضا…كان ذلك يبعث في نفوس المهندسين شيئا من الملل والضجر من تكرار سماع
مثل هذه التعليمات…فينتاب البعض حالات من التثاؤب المستمر لكن بعضها كنت امارسها
والصديق ضياء عمدا حتى يتمكن التثاؤب من المسؤول ايضا، فيبدأ هو الآخر مقاومة
تثاؤبه دون جدوى حتى يستسلم له وبعد استمراري وصديقي في التثاؤب يبدأ الجميع بالتثاؤب
حتى يوقف المسؤول حديثه ويظل يقول: لو نكمل الأجتماع لو أنروح انام!!!
أستمرت الاوضاع هادئة في الأعمال اليومية في القسم الذي
أعمل فيه بينما ظل عبد السلام يعاني من أعمال قسمه حتى قرر الهروب منه والعودة إلى
وزارة النفط ونتيجة ذلك جرت العديد من المساجلات بين وزارة النفط وشركتنا السابقه
من جهة وبين المؤسسة من جهة أخرى… فقد صدرت عدة أوامر أدارية مرة لصالح المؤسسة
ومرة لصالح الوزارة حتى جاء يوم القرار الحاسم.
زار وزير النفط موقع العمل الذي لجأ إليه عبد السلام
وبعد استعراض تقدم الأعمال مع المهندسين جاء دور طرح المشاكل وما يعانيه منتسبي
المشروع فوجد عبد السلام نفسه أمام فرصة لطرح مشكلة هروبه من المؤسسة وما ترتب
عليها لاحقا أمنيا فشرح للوزير مشكلته بالتفصيل …طمئنه الوزير بان مشكلته ستحل
مع المؤسسة ولا داعي للقلق وعليه الالتفات إلى عملة… لكن الوزير اراد ان يعرف
أكثر عن الحالات المشابهه فأستفسر من عبد السلام عن هذه الحالات المشابهه لحالته فذكر له اسمي
فما كان من وزير النفط إلا ان يأمر مدير مكتبة بتحرير كتاب موجه إلى المؤسسة
لأنهاء خدماتي وخدمات عبد السلام وإعادتنا إلى الشركة التي كنا نعمل بها.
في أحدى الصباحات وجدت كتابا رسميا على طاولتي صادرا من
ادارة المؤسسة ينهي فيه خدماتنا في المؤسسة والعودة إلى وزارة النفط وفي هذا ينتهي
فصلا جميلا من حياتي قضيته بين أصدقاء أعزاء ولأبدأ طريقا جديدا في وظيفة أخرى.
28/8/2021