بحث هذه المدونة الإلكترونية

8/07/2021

مطب دراسي

 مطب دراسي


كان الجميع ينتظر بفارغ الصبر إنهاء امتحانات السنة الأخيرة في الجامعة والخروج من المعترك الدراسي الذي أخذ من أعمارنا ستة عشر عاما وربما أكثر من ذلك عند البعض في أنتظار الولوج إلى عالم جديد.

طلبت إدارة الجامعة من الطلبة التحضير لاعداد المشاريع الهندسية وتقديمها إلى الهيئة التدريسة كل حسب فروعها والتقديم لاجراء الامتحان النهائي في مادة المشروع الهندسي والذي يعتبر الفصل الأخير من رحلة دراسية استمرت اربعة سنوات صاحبتها الكثير من الأحداث الأجتماعية والسياسية دون ان تؤخرها.

كان اختياري لأحد المشاريع الدراسية والبحث في أحد المواضيع العلمية المتعلقة بنظم أجهزة الراديو،  والمشروع عبارة عن انتاج وتصنيع نوع من المستقبلات يمزج بين تردد الإشارة المستقبلة وتردد الإشارة الناتجة عن جهاز مذبذب محلي (اوسيليتر) وهو من مصنفات مادة الألكترونيك التي أدرسها في قسم الهندسة الكهربائية في الجامعة تحت أشراف استاذ باكستاني اسمه عبد العزيز.

في نظام الجامعة يجتمع عدد من الطلبة وبحدود اربعة طلاب يبحثون في مادة المشروع لإعداد تقريرا فنيا حول مادة المشروع، يصادق عليه الاستاذ المشرف اولا قبل دفعه إلى الطباعة. في اغلب الأحيان تكون العلاقة بين الطلبة وعامل الصداقة فيها  سببا كافيا لتشكيل مجموعة الطلبة، وعلى هذا الأساس الجميل في صفوف الطلبة يتم أختيار الطلبه لرفاقهم، فأصبح كل من الزملاء عبد الصاحب وعبد السلام وجلال رفاقي في عمل التقرير الفني لتقديمه إلى الاستاذ المشرف قبل عرضه للمناقشة والأمتحان فيه من قبل استاذ آخرتحدده رئاسة الجامعة، فكان نصيب الأستاذ المصري دكتورعزت ان يقوم بمناقشة المشروع معنا وتقديم التقييم لنا إلى رئاسة الجامعة.

أتفقت مجموعتنا على توزيع الادوار والأتفاق على مراجعة ما يكتب كل منا في نهاية كل أسبوع من جهة ومراجعة جميع المواضيع المكتوبة مع الاستاذ المشرف من جهة أخرى لتلافي الأخطاء الفنية او الموضوعات التي تخرج عن نصوص المشروع، في وقت مناسب حتى نتمكن من طباعة التقرير قبل موعد الأمتحان بوقت ملائم لنا و للأستاذ المشرف.  

عمل كل واحد من المجموعة على موضوع المشروع وتوزعت الادوار بين أعضائها وبحث كل منا في الموضوع المكلف به وبذلت الجهود فكانت كتب الهندسة الكهربائية في  مكتبة الجامعة مصادرا لنا في موضوع المشروع ورغم تلك الجهود لن تخلو الأجواء من المرح والفكاهة بين الاصدقاء ولن تخلو من التندر من أحدنا بسبب عدم جديته في انجاز المشروع والأستخفاف بأهميته ما يجعل صديق آخرأكثر حرصا أكبر يبديه لنيل درجة أعلى ، يفقد صوابه.

أنتهت المجموعة من كتابة التقرير بشكله النهائي وتمت مراجعته من قبل الأستاذ عبد العزيز الذي يتحدث الأنكليزية بلكنة هندية وبعد ان تمت مناقشة كافة فصول التقرير الفني أصبح جاهزا لطبعه في ماكنة ميكانيكية وسحب عدد من نسخ التقرير من خلال طابعة رونيو.

 لا اعرف سببا محددا لماذا أختارني اصدقائي لأقوم بجمع الفروض والقيام بعملية التنسيق وترتيب صفحات التقرير بشكل مقبول ويتيح لنا طبعه وأخراجه بشكل جميل، فقد شعرت بمسؤولية كبيرة ولا بد من الأنتباه الشديد والحرص على أيصال التقرير إلى مطبعة قريبة من ساحة المتحف القريبة من منطقة العلاوي المزدحمة بالمسافرين المتوجين إلى محافظات العراق ومناطق بغداد الأخرى.

أتخذت من مكان مكتظا بالاوراق والكتب في المطبعة، مجلسا لي أتابع أنتهاء عملية الطبع في ظل أجواء حرارة صيفية معتدلة بوجود مراوح سقفية قديمة تتحرك فيها جميع أجزائها وليست ريشها فقط.

حملت أوراق التقرير الفني الذي صادق على طباعته الاستاذ المشرف وهي مرحلة تسبق وتغليفه وطبعه بثمانية نسخ وهو ما مطلوب منا تقديمه إلى رئاسة الجامعة مع اربعة نسخ أضافية، نسخة لكل منا. خرجت من المطبعة وسرت بين جموع المسافرين في منطقة العلاوي أحمل تقريرا من ستين صفحة على الاقل من حجم الأي 4 ولم أشأ تغليفه قبل مراجعته من قبل المجموعة لنتأكد بان التقرير يخلو من الأخطاء المطبعية، وقد أصابني التعب والأعياء حتى نادى شخص ينبهني بتساقط اوراق التقرير من يدي وفزعت لما رايت فقد تطايرت بعض الأوراق وقد لحقت ببعضها وأدركت حينها اني افقد بعضها وشعرت حينها أني أمام مأزق كبير بين أصدقائي الذين اعتمدوا علي في أنجاز طباعة التقرير. شعرت بحرج شديد وتصبب جبيني عرقا وأخذت الافكار المختلطة تضرب رأسي.

لم يسعفني مجيء باص مصلحة الركاب بسرعة من التخلص من وسواس فقدان بعض اوراق المشروع . صعدت إلى الطبقة العليا من الباص ذو الطابقين وجلست أمام الزجاج الامامي فوق طبقة السائق وحاولت استرداد أنفاسي فوضعت أوراق المشروع على رف امامي (تابلو) ومسحت عرق جبيني وظلت عيني تراقب الطريق.

وصل الباص الى منطقة سكني لكن حدث شيئا لم يكن في الحسبان فبعد ان أكتض الباص بالركاب أصبح الننزول منه ليس بالشيء السهل فقد تحتاج ان تدفع هذا او ذاك لفتح الطريق امامك وقد كان سقوط رجل كبير خلفي سببا لترك مكاني له، وقد انساني هذا الموقف اوراق المشروع فنزلت دونها ولم انتبه الا بعد مغادرة الباص لمنطقة الوقوف فحاولت جاهدا أيقاف السائق بأشارات وصياح لكن دون جدوى...

وحاولت العثور على تاكسي لكن دون جدوى وبقيت في حيرة من أمري مرتبكا لا أعرف ما افعل حتى توارى الباص عن الانظار.

ماذا أفعل يا ألهي؟... ماذا ساقول لاصدقائي؟ ماذا سيحصل لنا؟ سنعيد الامتحان في هذه المادة؟ لا...لا

هكذا كنت احدث نفسي وأحدث به عائلتي ... لم انم ليلة ذلك اليوم وخرجت إلى الجامعة بعيون غابت عنها النوم فعرف الاصدقاء ان شيئا ما قد حدث لأوراق المشروع بعد ان تممت بكلمات غير مفهومة عن مصير الطباعة.

وانا في طريقي إلى الجامعة، كنت أفكر في ايجاد مبررات فقدان اوراق المشروع وماذا ساقول لأصدقائي وكيف ابدأ بالحديث عن ذلك قررت حينها ان أقول الحقيقة ولا شيء غيرها.

لكل واحد من المجموعة أحاسيسه تجاه دراسته وحرصه على أتمامها بنجاح، فكان الصديق عبد الصاحب شديد الحرص بدرجة أكبر من بقية افراد المجموعة وقد تصدر منه ردود فعل عصبية بسبب حرصه هذا، اما الصديق جلال فانه يقف على الطرف النقيض منه فهو شخص غير مبال وتصرفه يزيد من عصبية عبد الصاحب وقد زادت انفعالته عندما شاهد رد الفعل البارد لجلال تجاه ضياع اوراق المشروع، حين قال: ليست هناك مشكلة نعيد الامتحان في الدور الثاني ... بينما اقف انا والصديق عبد السلام بينهما على مسافة واحدة لكنه لا تخلو من القلق.

أصر الصديق عبد الصاحب على إعادة كتابة المشروع الذي لم يعد لنا فيه إلا يومين على تقديمه لرئاسة قسم الهندسة الكهربائية مهما كلف الأمر من جهد متواصل. فتم الاتفاق على إعادة كتابة المشروع الذي فقدت مسودته مع الاوراق المطبوعة أيضا،  فبدأت المجموعة ببذل الجهود ليلا مع نهار معتمدة على الذاكرة ومعرفة الكتب التي أعتمدنا عليها سلفا... كنا نقضي ساعات حرجة حتى منتصف الليل بدون كلل ولا ملل فعيون الجميع على زمن تقديم المشروع.

وبعد جهود متميزة تمت كتابة المشروع من جديد لكنه بالتاكيد لا يخلو من أخطاء ولا يشبه سابقه على الاقل في التفصيلات والذي تمت مراجعته من قبل الاستاذ المشرف. 

لم نستطع ان نخبر الاستاذ المشرف بموقفنا هذا فقررنا كتمان الخبر عليه وأعتبار ما كتبناه هي نسخة اصلية خوفا من رفضها في الوقت القاتل.

طلب عبد الصاحب هذه المرة ان يرافقني إلى المطبعة للتاكد من سلامة وصول التقرير في الوقت المحدد له وبدلا من انتظار مراجعته مرة أخرى قررنا تغليفه بغلاف ابيض كتب عليه أسم مادة المشروع واسماء الطلبة الذين أنجزوا العمل ودفعنا به إلى الاستاذ المشرف الذي قام بدوره وتسليمه إلى اللجنة الأمتحانية.

جاء موعد الامتحان والجميع يراوده قلق غير مسبوق، الامتحان من جهة و نوع التقرير الذي لم يراجع من جهة أخرى والنتيجة الحتمية في مثل هذه الحالات الفشل والرسوب، الجميع في وضع حرج باستثناء الصديق جلال الذي لم يبالي كثيرا بنتيجة الامتحان. كان اسلوب الامتحان ان يقوم دكتور عزت بامتحان المجموعة بشكل منفصل ويدخل الطالب عليه ليتلقى أسئلة خاصة بالمشروع وبطبيعة الحال، على الطالب ان يرد اجابة صحيحة لنيل درجة النجاح بالمشروع. كنت واصدقائي نسأل بعضنا بعض عند خروج أحدنا من غرفة الامتحان عن السؤال الذي كان من نصيبه ونسأل ايضا فيما إذا كان دكتور عزت قد كشف أخطاءنا او تعرف على ما فعلناه في الايام الماضية.

كان دكتور عزت من مصر، يتمتع بذكاء شديد وذو روح مرحة، لا يخفى عليه امورا مثل هذه ويستطيع كشفها بسهولة وقد عرفت ان أمرا قد حدث بعد دخول الصديق جلال عنده فقد دخلت بعد جلال وقبل ان يمتحنني الدكتور عزت سألني سؤالا محددا عرفت بعده ان هذا السؤال قد سأله لجلال  قبل دخولي:

هل راجع استاذ عبد العزيز هذا التقريرقبل الامتحان؟

هكذا كان يسأل المجموعة واحدا واحد لكن لم أستطع ان الحق بجلال وافهم منه ماذا قيل له وبماذا أجاب!! فكان علي ان أراوغ لاني لا أجيد الكذب فقلت له بدون تردد: وهل هناك شك في ذلك؟ ضحك دكتور عزت وبدأ يسألني في الامتحان...

أنتهت مرحلة الامتحان على خير وتخرجت المجموعة من الدور الاول وفرقت أعضائها الايام،  لكن وسائل التواصل الجماعي كان لها الفضل في جمعنا مرة أخرى بأستثناء جلال الذي لا زال البحث عنه مستمر.

7/8/2021

   

  

  

 

 

 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق