اللِّسَانِ فِي كَشْفِ الْبَيَان
الْمُقَدِّمَة
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الامين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
وصحابته الاخيار الميامين وبعد ...
قال الله ﷻ: ﴿ ولا تقفُ ما ليس لك به علم ﴾ ) الإسراء: 36(.
وقال ﷻ:
﴿ ما
يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ )
ق : 18(.
وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال:
قال رسول الله ﷺ : ﴿ إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة،
وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور
يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا ﴾ ) متفق عليه(.
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)عن النبي ﷺ قال: ﴿ من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت﴾ )متفق
عليه(.
وهذا صريح أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا
إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا
يتكلم.
لقد دعى الإسلام المؤمنين إلى حفظ
ألسنتهم، وصونها عن الكلام فيما لا يجوز أو لا يصح أو لا يليق، وحذرهم من أن
يوردهم اللسان موارد الهلاك إن هم لم يحفظوه كما ينبغي له.
لكن هل حافظ المسلمون على المنهاج الاسلامي في نقل الاخبار والروايات؟ وبكل بساطة
سيكتشف كل منا وبسهولة الجواب على هذا السؤال وهو "لا" بسبب ما حاصل
اليوم من فرقة بين المسلمين نتيجة تداول الاخبار والروايات المزيفة والتي ابتعدت
وانحرفت عن المنهاج الاسلامي السليم ما أدى إلى نشوء صراعات حتى منها دموية إلى
يومنا هذا.
لقد مر
علينا وعلى الاجيال السابقة وسوف تبقى تمرعلى الاجيال القادمة، الكثير من الأحداث
اليومية منها المهمة ومنها ما لا تستحق الذكر فينبري لها المحدثون في روايتها
ونقلها إلى الآخرين بطرق مختلفة مستعينين بأساليب تختلف بين شخص وآخر، فمن يضيف
لها نكهات
كنكهات الطعام لجذب وشد المستمع مستخدما تعابير وجهه او نبرة صوته بترددٍ عالٍ
جدًا، يسمحُ للقشعريرة ان تتسلل إلى الابدان او اصوات دافئة تبعد مستمعها عن
الاهتمام بالخبر وبين هذا وذاك يبنى البيان الذي يصل إلى الناس حسب ما سمعه
اوشاهده.
وتختلط
أحاسيس رواة الاخبار والأحداث التي يشاهدوها من منفعل بسبب أندماجه بالخبر وبين
آخر غير مبال بما يحدث فينطلق الأول بين عموم الناس يخبر بالأحداث التي عاشها عن
قرب منها بطريقة درامتيكية تؤثر سلبا في نفس المتلقي او بطريقة اقرب إلى الايجابية
من السلبية أو هي على موقع الخيط الفاصل بين السلبية والأيجابية. وهذه الأحاسيس هي
ذاتها التي يظهرها أمام أسرته فينشأ جيلا يأخذ الكثير من ما سمعه او شاهده بالطريقة
نفسها التي تلقاها عند وصول الأخبار إليه.
لكن
الملفت للنظر هو قيام آخرين بالتبرع في نقل نفس الأحداث بنفس الحماس الذي حمله من
قبله ما يشكل سلسلة من رواة الاحداث والاخبار لكن هذه السلسة سرعان ما تهتز
وتتراخى بسبب وقوع البعض من الرواة بالخطأ او الخلط عندها يبدا الناس برمي تلك
السلسلة بشتى الاتهامات يصل بعضها إلى تكذيب اخبارها جملة وتفصيلا ويصل البعض
الآخر إلى أضافة ما يحلو له من القول لغاية في نفسه او في نفس مجموعة ينتمي لها
فكريا او عقائديا.
قد
يؤدي نقل الخبر وتناميه كما ذكرنا إلى نتائج سلبية تؤدي بالنتيجة إلى كوارث في
المجتمع الواحد ينشأ عنها نزاعات دموية بين أفراد المجتمع الواحد وتصيب الجسد
والفكر والتطور المجتمعي بنفس القدر من السوء فتضرب الانسان دمويا في جسدة وتضربة
في عقله فكريا وتضربه في دماغه فتمنع عنه التطور الانساني...
فقد
شاهدنا وسمعنا ماذا جرى في بلدان الهند والسند والملاوي ومؤخرا في بلداننا العربية
بسبب الكم الهائل من الروايات الملفقة والموضوعة حول بيت النبي محمد ﷺ واصحابه من
قبل رجال وظفوا، لتداول هذه الرويات وتناقلها بين افراد المجتمع الواحد، من دول لا
تريد الا تمزيق الوحدة الاسلامية أولا والعربية التي تحمل لواء الاسلام ثانيا
والأبقاء على حالة الا التطور الفكري والمجتمعي والعلمي للمجتمعات الأسلامية
والعربية.
وللأسف
الشديد قد أصاب رجال الدين ما اصاب العامة من الناس إذ نشروا الغلو في الأمور
وإختلاق الروايات ما هو ما يشد الناس إليها او جمع الاتباع ولاغراض دنيوية وإرضاء
الحاكم. فكان نتيجة ذلك تراجع الفكر الانساني والوقوع في دهاليز التخلف المجتمعي
والانحراف عن ما جاءت به الشريعة الآليه من تعاليم ومُثُل وتقويم الاخلاق
والعلاقات الانسانية بين افراد المجتمع الواحد وبين المجتمعات أيضا.
لذا
كان الوجوب في نقل الحقائق ان يصان اللسان عن النطق بالكذب والتزوير في نقل
الحقائق وكشف البيان الصحيح بدون تحريف ومن الثوابت التي نصل بها إلى هذا الأمر ان
يتحصن الانسان بما يلزم لمواجهة ما يوسوس له الشيطان والوقوف عقلا وتفكيرا إلى
جانب النفس التقية وتحييد سيطرة النفس اللوامة على العقل والافعال. ولفهم هذه
الامور يجب معرفة الإدراك البشري وافعاله وعلاقتها بالعقل والقلب وجوارح الانسان
الأخرى.
لقد
وظفت بعض القوى الظلامية جهودها في نشر الفكر الرجعي في مجتمعات اليوم وراحت تبث
سمومها في عقول الناس من أجل مصالحها والبقاء كقوة تسيطر على العالم والانسانية
ورغم ذلك تصدى لها علماء ورجال خرجوا لتوعية المجتمعات وتعريفها بالافكار المظللة
التي أطلقتها تلك القوى لحرف المجتمعات عن المسار الصحيح، وهكذا سيستمر هذا الصراع
قائما بين قوى الشر التي تريد من الناس طاعتها والتمرد على كل ما هو جاءت به
الشرائع السماوية وبين قوى الخير التي
التزمت بتلك الشرائع والتي تريد أصلاحا وتطورا في الجانب الانساني الذي اراده الله
ﷻ لعمموم البشر.
لقد
اسهم انتشار الفرق الدينية، والقصور في الادراك، وزيادة البدع، والاختلاف في
التاويل الفقهي، ونشر الخرافات والاوهام، أسهم في إنحراف الدين الاسلامي وانقسامه
إلى طوائف ومذاهب ادت في آخر المطاف إلى التناحر والاقتتال بين جميع الفرقاء.
يجب أن نعترف أنّ ثقافتنا العربية
والإسلامية التقليدية الموروثة، هي ثقافة لا تعرف النقد والتمحيص بالشكل الذي يجعل
ما نعتبرها مسلّمات مثلاً هي مسلّمات حقيقية لم يشوبها عقلانيا شائبة؛ لأنها في
الغالب ثقافة (نقل) لا ثقافة (عقل). وهناك من فقهاء الماضي من يخاف وترتعد فرائصه
من العقلانية، فيعتبر (المنطق) ضرباً من ضروب الزندقة والضلال؛ وغني عن القول إنّ
المنطق في أبسط تعريفاته وأوضحها هو الآلية العقلانية للوصول إلى الحقيقة المجردة.
صحيح أنّ (الدين) الحنيف مصدره الوحيد
هو النقل وليس العقل، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً ما لم يُسلم
بالقرآن الذي وصل إلينا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم تسليماً كاملاً؛ لكن
هذا لا يعني إطلاقاً أن يصبح قبول النقل منسحباً على كل ما عدى ديننا الحنيف من
شؤون الحياة التي تقوم على تحري مصالح الناس وتلمسها وتتبعها حيث كانت؛ وهذه
مشكلتنا العويصة، التي لا نعرف كيف نتخلص من أغلالها وقيودها؛ أي أننا لا نفرق بين
ما هو ديني فننأى به عن آلية المنطق العقلاني، وبين ما هو دنيوي فنخضعه لآلية
المنطق والعقلانية من حيث القبول أو الرفض.
ولا يمكن لنا أن نبني حضارة حقيقية ما
لم نفعّل العقل، وآليته المعروفة (المنطق). خذ مثلاً
(الرياضيات) والتي هي فرع من فروع المنطق، والسؤال الذي يطرحه السياق هنا: هل
يستطيع أن يقوم أي علم تجريبي للوصول إلى الحقيقة، يعتمد على الفرضية والملاحظة
والبرهان، دون أن يتكئ على المنطق، وبالتحديد علم الرياضيات؟.. ليبرز السؤال هنا
وبقوة : وهل من توشّح بالمنطق واعتمد عليه هنا (تزندق) كما يقولون؟ ومن يعود إلى
تراثنا المعرفي الموروث سيجد كثيراً من هذه المقولات الموروثة، التي ما إن تعرضها
إلى النقد والفحص والتمحيص حتى تتهاوى كل أساسياتها وأركانها التي تقوم عليها؛ بل
ويعتبرها كثير من النقاد من أهم العقبات المعرفية التي تقف حائلاً بيننا وبين
اللحاق بركب الحضارة المعاصرة اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق