في رحيل أيقونة بغداد وجدان نعمان ماهرالكنعانيّ (1945-2020)
رحلت وجدان الأخت الغالية والصّديقة الوفيّة والإنسانة النّبيلة بعد أن تركت في الدّنيا الفانية الأثر الّذي يتركه كبار النّفوس وكرامها. رحلت -كما عرفناها- مترفّعة عن الصّغائر وترّهات الحياة. رحلت -كما عاشت- بيضاء اليد نقيّة القلب والضّمير. رحلت وهي في عيون أصدقاء عمرها وزملائها ومعاصريها أيقونة بغداديّة ونسيج وحدها.
رحلت وجدان عن عالم لم ترضَ يوما أن تعيش فيه على هامش الحياة، فساهمت مع من ساهم من معاصريها في صياغة ذائقة المجتمع البغداديّ الثّقافيّة المعماريّة وكانت تترك بصمتها الجميلة أينما عملت منذ السّبعينات وحتّى رحيلها عن العراق في عام 1990 سواء في مشاريع إحياء معالم بغداد البارزة مثل بيت الحكمة العبّاسيّ الشّهير وخان مرجان الّذي بُني في القرن الرّابع عشر الميلاديّ، فأحيته وجدان في مطلع الثّمانينات ليصبح مطعما تراثيّاً ومَعْلَماً سياحيّاً جذّاباً أو في مشاريع معماريّة حديثة مهمّة ذات طابع توثيقيّ مثل نصب الشّهيد الّذي صمّمه النّحّات إسماعيل فتّاح التّرك وفازت بتنفيذه وجدان وفريقها المعماريّ في مسابقة معماريّة رسميّة. هذا فضلاً عن إصدارها بمجهود شخصيّ مجلّة عمارة) في أواخر ثمانينات القرن المنصرم ولها الرّيادة في ذلك محلّيّاً وعربيّاً.
وعندما أدارت الحياة ظهرها للكثيرين من أبناء جيلها في وطننا المبتلى لم يتوقّف نشاطها الفكريّ الفاعل في محيطها، كما لم تنحصر اهتماماتها في مهنتها الّتي زاولتها في بريطانيا والإمارات العربيّة المتّحدة. فظلّت على عهد زملائها وأصدقائها بها، ومعظمهم من مثقّفي العراق، تقرأ لهم وتتابع بحرص صادق ما ينشرون وما يرسمون، وتبدي آراءها بنتاجهم الإبداعيّ بتواضع يصفونه بالجمّ وبحميميّة يصفونها بالصّادقة، وهي الّتي عُرف عنها الفهم السّليم والوعي العميق لدورثقافة الفكر المتقدّم في تطوير الفرد والمجتمع.
كانت وجدان في نشاطها الفكريّ ترتوي من ينابيع تجربتها الشّخصيّة مع الحياة، وهي تجربة تعود جذورها إلى نشأتها في بغداد في أسرة عُرف عنها اهتمامها بالشّأن العامّ وشجونه كما عُرف عنها ميلها إلى ثقافة الفكر المستنير وطموحاته. فاعتنت وجدان منذ صغرها بالاطّلاع على ما توفّر لها من المعرفة في أبوابها المتنوّعة لتبني بها شخصيّتها وتشذّب بها وعيها بما يحدث حولها في المدينة والمجتمع. وتنامى وعيها بتنامي تجربتها الدّراسيّة والحياتيّة، وهي ترى مع بنات جيلها و أبنائه التّحوّلات الكبرى الّتي كانت تشهدها المنطقة العربيّة ومنها العراق، وتلمس أثر تلك التّحّولات في مفاصل الدّولة والمجتمع، قبل أن تصبح هي من المساهمين الفاعلين في نهضته المعماريّة منذ مطلع سبعينات القرن العشرين.
وعلى الرّغم ممّا كانت تتعرّض له المنطقة العربيّة من هوان ويتعرّض له العراق من تنكيل منذ عقود، لم تفقد وجدان أملها في غد يصنعه اليوم جيل جديد من الشّباب رافض للهوان. في عامها الأخير وبينما كانت تعدّ نفسها للرّحيل وتقاسي أوجاع المرض الوبيل ظلّت عينها على عراق جديد يعيد له الشّباب المنتفض زهوه ومجده.
رحلت وجدان الأخت الغالية والصّديقة الوفيّة والإنسانة النّبيلة في بريطانيا في الثّالث عشر من آذار هذا العام، وتركت لنا حزناً ووجعاً وذكريات. فهل درت، وهي الّتي كانت ملح الأرض وأيقونة أسرتنا الرّقيقة، أنّ فراقها سيوجع من عرفها عن قرب وعن بعد؟
- Imara Magazine, established in 1988 by Wijdan Mahir
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق